قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, March 8, 2018

عروس للولد



مع زحام اللافتات التي تؤيد وتبايع في كل مكان، وهي تمثل مجرد تسجيل موقف في انتخابات محسومة أصلاً، تذكرت مقالاً قديمًا لي يعود لأيام مبارك. وما زال صالحًا جدًا مما يدل على أن الظروف لم تتغير أو أن المصري لم يتغير. لقد هبت عواصف يناير لتزلزل المجتمع المصري ومسلماته، ثم وهنت وتداعت وعاد كل شيء كما كان أو أسوأ.

أرجو منك أن تسمح لي بإعادة هذا المقال الذي بلغ عمره عشرة أعوام تقريبًا:

هذا إعلان غير مدفوع الأجر، أرجو من أولاد الحلال أن يأخذوه بجدية برغم أنه يبدو أقرب للمزاح.. أبحث للواد ابني عن عروس مناسبة.. لا أشترط الجمال ولا الأصل ولا الفصل ولا الأخلاق ولا الثقافة ولا التعليم ولا الدين ولا الطبع الهادئ ولا حسن التربية ولا السمعة الحسنة.. كل هذه الأشياء عرض زائل.. فقط لي شرط واحد هو أن يكون أبوها خطاطًا ممن يكتبون لافتات التأييد التي تعلق في الشوارع.. ربما كانت سن ابني صغيرة جدًا لهذا لا أمانع أن ألهف أنا العروس فلا أعتقد أن المدام ستمانع خاصة إذا عرفت أسبابي..

منذ أعوام فطنت إلى أن أكثر المهن رواجًا في عالمنا العربي هي تفصيل العلمين الأمريكي والإسرائيلي، ويكفي أن تشاهد أي نشرة أو مؤتمر شعبي لتدرك أن آلاف الأمتار من القماش تحرق كل عام.. ومعها يتدفق الذهب في جيوب ترزية الأعلام لو كانت هناك مهنة كهذه..

بعد فترة بدأت أدرك أن حياتنا كمصريين لا تستقيم من دون لافتات… لافتات مبايعة.. لافتات تأييد.. لافتات تأييد للمؤيدين.. لافتات شتيمة في غير المؤيدين الذين لا يؤيدون.. شعب يعيش حياته باللافتات هو شعب صمم على أن يجعل الخطاطين أثرياء.. لم تكد تنتهي هوجة الانتخابات التي أصر المصريون بذكائهم الفطري الحاد على أنها مبايعة، حتى بدأت هوجة مجلس الشعب..

هناك قصة طريفة عن مواطن بريطاني من ويلز كان يحتفظ بلافتة واحدة كتب عليها (يا للعار!).. وكان يرى أنها تصلح لكل المناسبات باعتبار أن هناك دائمًا عارًا ما لابد من الاحتجاج عليه، ويقال إنه وجد نفسه في مشكلة حينما خرجت البلدة ترحب بعمدتها الجديد!.. هذه هي المرة الأولى التي لم يجد فيها لافتة صالحة..

لو قررنا أن نقلد هذا العبقري لاكتفينا بلافتة عملاقة تقول: «نؤيد ونبايع الرئيس الموجود حاليًا للأبد».. وهكذا.. هناك دائمًا رئيس على حق دائمًا، وبهذا نوفر المليارات التي أنفقتها مصر على اللافتات..

تمشي وسط المدينة فتدمي اللافتات عينيك بقبحها وفظاظتها.. ضوضاء بصرية لا أول لها ولا آخر.. تدخل فنانو الجرافيك ليثبتوا أنهم استوعبوا عصر الكمبيوتر وأنهم يستطيعون ممارسة (النفاق الرقمي)، ليدخلوا مزجًا موفقًا بين صورة مبارك وبين الذي يؤيده لتوحي الصورة بأنهما صديقان حميمان.. ترى في كل لافتة الرئيس ينظر للكاميرا باسمًا بينما يقف جواره الحاج (عبسميع)… لا تقرأ الاسم لكنك تعرف انه الحاج (عبسميع) دائمًا.. تاجر حدايد أو أسمنت أو أعلاف أو قطع غيار سيارات.. بشاربه الرفيع وصلعته ولغده ونظرة الأجلاف في عينيه.. لا تحتاج لأن تكون من مباحث المخدرات كي تعرف أن الحاج (عبسميع) يتاجر في البانجو.. لا تحتاج إلى أن تكون أخصائيًا اجتماعيًا كي تدرك أنه متزوج للمرة الثالثة من فتاة تصغره بعشرين سنة وأنه يتعاطى الفياجرا بإفراط، وأن عنده سيارة (مرشيدس).. لا تحتاج إلى أن ترى باقي الصورة حتى تدرك أنه يمسك بسبحة في يده يعد عليها ملايينه..

هذا هو الوجه الذي يطالعك عند الصباح وعند المساء، كأنها ليست لافتة تأييد بل لافتة مسمط يعرض إنتاجه من لحمة الراس.. واحد من ألف وجه مماثل تناثرت في أرجاء مدينتك، يمزقون سلامك النفسي ويخدشون حياءك (هناك وجوه تخدش الحياء في حد ذاتها) وكلهم لفق صورته ليظهر جوار الرئيس كأنه من أخلص خلصائه.. وكل هذه الوجوه تصيح بحماس: نحن المنتفعون!!.. البلد بلد أبونا.. وبإذن واحد أحد حناكلها والعة..

هذا بلدهم وتلك مصالحهم وهم يدافعون عنها بكل مرتخص وغال.. نعم من القلب لزراعة البانجو.. نعم من القلب للاختلاس وغش حديد التسليح.. نعم من القلب للأطعمة الفاسدة المسرطنة.. نعم من أجل تجريف الأراضي.. نعم.. نعم.. نعم….

ترى في وجوههم رائحة التهريب والتأشيرات المضروبة والبانجو والمضاربة و.. و.. ترى في وجوههم كل ما أفقرك وعذبك وبهدل كرامتك وأهانك بين الدول وملأك بالخوف على مستقبل أطفالك وجعل أعزة أهلك أذلة.. ترى في وجوههم مستشفيات الحكومة معدومة الإمكانيات والمدارس الخربة والإعلام الهايف وصفر المونديال والسفير الإسرائيلي والمليارات التي يمرحون بها في الخارج..

حتى عندما تبتكر هذه الوجوه شعارات انتخابية فهي تأتي فضيحة في حد ذاتها.. (دوس دوس.. إحنا معاك من غير فلوس).. (يا جمال طمن أبوك.. البورسعيدية حاينتخبوك).. (لا لفار الجمالية اللي عاوز يبقى رئيس جمهورية).. هل هناك شعارات أكثر ابتذالاً وسخفًا؟… لو جئت بتشيكوف ونجيب محفوظ ودستويفسكي وديكنز وإميل زولا، وأعددت لهم شايًا ثقيلاً مع اتنين كيلو كباب وطلبت منهم ابتكار شعار سوقي واحد فهل كان بوسعهم الوصول لشعارات كهذه؟

لكن كل هذا الإنفاق يتجه في النهاية إلى جيب واحد هو جيب الخطاط.. ولما كانت العضمة قد كبرت فإنني أستبعد أن تبلغ بي الحماسة درجة دخول مدرسة الخطوط (من أجل مستقبل باهر مشرق).. لهذا قررت أن آخذ الثروة من المنبع وأطلب لابني يد بنت أي واحد من هؤلاء، فهم مستقبل هذا البلد كما كانوا ماضيه.. منذ كانت لافتات التأييد تنحت على الجرانيت ويوقع عليها الكاهن نخت آمون، إلى أن تصير لافتات التأييد مكتوبة بالليزر الذي يولده محرك بيولوجي ذو ذكاء صناعي..

أعرف أنني بهذا أرسم لابني مستقبلاً باهرًا؛ فكل المهن يمكن الاستغناء عنها في مصر ما عدا مهنة الخطاط ومصمم اللافتات.. هذا بالطبع ما لم ينضج المصريون يومًا ويكتفوا باقتناء لافتة واحدة كتب عليها (يا للعار!).