قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, February 14, 2018

سيمفونية المقصلة - 5 - اﻷخيرة


رسوم الفنان طارق عزام

لو أن رجلاً قوي الملاحظة تابع المختبر لفترة، لرأى من تخرج وتدخل في ساعات عدة… الغريب في الأمر أن الفتاة صارت أقرب إلى الرقة وصار حجمها أصغر.. فتاة لها وجه حورية ومن الواضح أن جسدها لا يقل جمالاً.

دومنيك تخرج في الصباح لالتقاط رزقها في السوق. تعمل أي عمل في أي مكان حتى المساء، وفي الليل غالبًا ما تعود بزبون إلى المختبر..

لاحظ الناس أنها لا تندمج بأحد ولا تتكلم مع أحد، بل إنها لم تنزع الوشاح الثقيل الذي تلفه حول عنقها قط….

تثير فضول النساء في العمل، لكن شيئًا في وجهها كان يقضي على فضولهن.. لم يكن أحد يحب أن يتعمق في أسرارها أكثر من اللازم.

لو كان هناك من يتابع دومنيك بكاميرا من طراز Time lapse لأدرك أن حجمها يتغير أكثر من مرة. هناك من يتعامل معها فيلاحظ أن يدها أكبر من المعتاد أو أصغر من المعتاد. لكن الناس لا تعلق أهمية كبيرة على أمور كهذه..

تدور الأيام..

لقد ولى الماضي وولت معه أيام السعد، عندما كان بوسع أي شخص أن يقتل أي شخص ولا يلاحظ أحد. صارت القوانين ونظام الشرطة أكثر صرامة.. وقلت التحولات في وجه دومنيك..

لا يعرفون عنها الكثير. لكن المسنين يصرون بشكل غامض على أنها لم تشخ قط.. طيلة حياتها لها نفس الملامح.. أثار هذا خيال البعض عن قصص الساحرات لكن بالطبع لا يمكن أن يصل الفضول بالناس درجة كتاب مطرقة الساحرات، وصيد الساحرات القديمة…

تدور الأيام…..

***************

كان رمزي يتأمل جدران الفيلا.

لم يكن خبيرًا في الفنون جدًا لكن بعض اللوحات راقت له، ولم يعرف أن هذه لوحات تأثيرية معظمها لمونيه… لا شك في أن بريجيت ثرية فعلاً. لا يعرف من أين جاءت ثروتها وهو لم يسأل على كل حال. تتصرف كالوريثة الغنية التي تعبث بكومة من المال عبثًا.

هذه الصورة التي تحمل طابع الروكوكو الواضح تمثل فتاة أو امرأة بارعة الحسن تبتسم ابتسامة هادئة ناعسة.. أثار ذهوله التشابه القوي جدًا بين صاحبتها وبريجيت.

جاءت بريجيت جواره وهي تجفف شعرها المغسول وراحت تراقب ما يلفت نظره هكذا..

قال لها:
ـ«هل هي جدتك؟»

هزت رأسها بطريقة ذات معنى وقالت:
ـ«اسمها دومينيك دو جالفان.. من صديقات ماركيزة شهيرة، وقد قطع رأسها بالمقصلة.. ظلت صورتها تذكر الناس بالوجه الجميل الذي كان»

قال في دهشة:
ـ«التشابه مطلق.. كأنها صورة رسمت لك أمس»

ـ«ألعاب الجينات لا تنتهي»

عندما تناولا الغداء معًا، كانت في قمة فتنتها الأنثوية وسحرها. كانت تلتقط طعامها في رفق، ثم قالت له:
ـ«هل يمكنك أن تأتي غدًا عند منتصف الليل؟»

هز رأسه.. هو مستعد دائمًا لأن يزورها في أي وقت، لكنها لم تحدد من قبل ساعة متأخرة كهذه وبهذه الدقة.. قالت باسمة:
ـ«أسئلة كثيرة سوف تجوب ذهنك لكني سأفسر كل شيء».

ورشفت رشفة من النبيذ..

****************

مدخل الفيلا كان مفتوحًا.. لابد أن الكلب يعبث في مكان ما من الحديقة..

باب البيت مفتوح أيضًا. هناك فوضى عامة.. يبدو أنها كانت ليلة صاخبة.. لكن ما أثار دهشته هو أن هناك حقيبة أنثوية ومعطفًا في قاعة الجلوس. أشياء لا تخص بريجيت..

هناك بعض الكؤوس وزجاجة كونياك مفتوحة ورائحة تبغ.

صاح بأعلى صوته:
ـ«بريجيت!»

جاء صوتها من بعيد.. كان قادمًا من الطابق العلوي…. لم يتبين ما قالته، لكنها كررت النداء:
ـ«أنا في الحمام بالطابق العلوي.. أغلق الباب وتعال»

متوجسًا اتجه إلى الدرجات وصعد فيها.. لربما هي لعبة إغراء معينة منها، لكن بريجيت علمته أنه لا يوجد شيء اسمه علاقة جسدية.. كأنها كائن بلا جسد..

كان الصوت قادمًا من الحمام.. وقف خلف الباب دقيقة.. يمكنه أن يشم رائحة دم مسفوك لا يعرف مصدرها….

ـ«تعال يا رمزي.. ادخل»

في خجل مد رأسه.. هنا رأى مشهدًا لا يمكن وصفه…..

بريجيت لم تكن امرأة..

بريجيت لم تكن رجلاً…

بريجيت لم تكن حيوانًا..

بريجيت لم تكن شيطانًا….

قالت له وهي منهمكة:
ـ«يمكنك أن ترى ما أفعله كلما مرت ستة أشهر… في الماضي قام عالم مجنون بعمل هذه الجراحة لي، أما اليوم فأنا أعرف كيف أعملها مستعينة بالسحر»

أفرغ معدته.. وتمنى لو كانت لديه أحشاء أكثر يفرغها..

لما استطاع الكلام سألها:
ـ«من هي؟.. صاحبة الرأس!»

ـ«صديقة جديدة لي قلت لها إنني أريد أن أعرفها عليك»

كانت العملية تتم ببطء وسط بركة من الدماء. جسد بريجيت مقطوع الرأس يسبح هنالك.. ورأس الفتاة متدحرج هنالك على بعد أمتار، بينما التحم رأس بريجيت بالجسد الجديد المكتنز..

كان يرتجف.. هذا يتجاوز حدود الكوابيس…. ولولا أن ساقيه منهكتان رخوتان لفر من هنا للأبد…

ـ«هل أنت شيطان؟»

ـ«ربما أنا أسوأ»

هناك جلس في قاعة الجلوس وغطى وجهه.. لابد أنه غاب عن الوعي بضع دقائق، وعندما عاد إلى الوعى فطن إلى أن هذا كله يحدث فعلاً…

هناك وقف على باب الحمام يراقب العملية البشعة، والفتاة تحكي له قصة دومنيك الشيطانة. الشيطانة التي أخطأ رجال الثورة الفرنسية بإعدامها…

تصديق كل هذا مستحيل لكن أي مستحيل بعد ما يراه أمام عينيه؟

قالت له:
ـ«دائرة لا تنتهي ولن تنتهي.. سوف تستمر للأبد. لن أظفر بالراحة يومًا. والحل الوحيد في يدك أنت.. لقد وقعت في حبك ووثقت فيك وخمنت أنك قادر على منحي الراحة فعلاً».

ـ«كيف؟»

ـ«أنا في وضع هش الآن.. مرحلة الانتقال الأولى. سوف تذهب إلى القبو فتحضر فأسًا وبعض الكيروسين… ستهشم رأسي ثم تحرقه بالنار إلى أن يتفحم. صدقني هذا هو الخلاص الوحيد لي، ولو لم تفعله فلسوف تسقط فتاة أخرى ميتة خلال ستة أشهر عندما يبلى هذا الجسد»

ـ«لكن الشـ….»

ـ«لا أحد يعرف بقدومك هنا أو علاقتك بي. الحادث ضد مجهول»

التقزز يغمره..

لكنه ذهب للقبو فعلاً وبحث عن الفأس والكيروسين، وخمن من الرائحة أن هذا المكان يستعمل كمدفن كذلك.. ثم أنه عاد لها حيث رقدت في الحمام…

همس من بين أسنانه:
«أنت تسامحينني.. أنت من طلب هذا…»

ورفع الفأس وهوى به.. وأغمض عينيه وهوى عدة مرات.. ثم استكمل المهمة القذرة بالنار..

كان قلبه يتواثب انفعالاً وهو يجمع حاجياته كلها تأهبًا لمغادرة الفيلا للأبد..

غسل وجهه من أثر الدم. أما عن بقع الدم على الثياب فليأمل أن الليل سيداريها.

ركض نحو باب الفيلا المطل على الشارع، ونظر في الظلام.. لاحظ كثرة غير عادية للأضواء الوهاجة الملونة وسمع صوت السرينة. عندما رفع عينيه أدرك أن هناك أربع سيارات شرطة تحاصر المكان….

الفتاة التي ماتت كانت مرتابة.. لربما تركت بياناتها لدى صديق يبلغ الشرطة في حالة تأخرها. لربما سمع الجيران كذلك صوت صرخة..

سيكون تفسير ما قام به مستحيلاً… دومنيك التي ظلت رأسها حية تبدو قصة عسيرة على التصديق. فقط براعته وبراعة محاميه سوف تنقذه من الإعدام لتنقله إلى مستشفى الأمراض العقلية. تقدم نحو الأضواء في بطء…

تـــمـــت